بدعة حديثة في بناء العلاقات والهدن والاتفاقيات مع القوى الغربية المعادية لدين الأمة ونهضتها: إنّه يحقّ للدولة ما لا يحقّ لغيرها
هناك بدعة حديثة يتداولها بعض من يقف في منصب الفتوى أو الخطاب الدفاعي عن الحكومة السورية، مفادها أنّه يُباح للدولة ما لا يباح للأفراد، وتحديدًا في سياق بناء العلاقات والهدن والاتفاقيات مع القوى الغربية المعادية لدين الأمة ونهضتها؛ بغرض دفع شرّها أو لوجود مصلحة مشتركة معها في قضايا جزئية.
والواقع أنّ هذا التفريق لا أصل له في الشريعة في باب ما يباح من علاقات واتفاقيات في حالة الاستضعاف؛ فإنّ المناط الذي يفرّق بين حالة وحالة لا علاقة له بوصف “الدولة” غير الواضح ولا المؤثّر، بل هو متعلّق بتحقق حالة الاستضعاف والعجز والحاجة إلى دفع مفاسد أو جلب مصالح للأمة، فتتّخذ الجماعة الساعية إلى التمكين من الخطوات في هذا المسار ما تقدّر أنّه يدرأ المفاسد ويجلب المصالح للأمة. سواء كانت تحت مسمّى “دولة” أو “فصيل” أو “هيئة” أو أيّا كان.
وكلما كانت حالة الاستضعاف أشدّ كانت هنا سعة وعذر أكبر في مثل تلك العلاقات. ومن تدبّر السيرة النبوية سيجد ذلك مطّردًا فيها؛ ففي المرحلة المكية (أي ما قبل التمكين) احتمى الرسول صلّى الله عليه وسلّم بسيوف بني هاشم، مشركهم ومسلمهم، ودخل في جوار مشرك، وأرسل أصحابه إلى ملك في نظام غير إسلامي (النجاشي) ومدحه وقال إنّه ملك لا يُظلم عنده أحد.
وفي بدايات المقام في المدينة، حين كانت القوى الكفرية متربّصة وكان التمكين برعمًا صغيرا لم يتجذّر بقوة بعد؛ سنجد نوعًا من التحالف مع قبائل مشركة فيه تساهل أكثر مما حدث بعد ذلك حين رسخ التمكين للمسلمين بعد الأحزاب وغيرها وصولا إلى فتح مكة، حيث لم يقبل منهم سوى الإسلام ولم يستعن بمشركين.
وإذا أنزلنا هذا على حالة الثورة السورية وصولا إلى الأوضاع الحالية، سنجد أنّ مساحة المناورة والتعامل مع القوى المختلفة كانت أوسع وأرحب في مرحلة الفصائل والاستضعاف الشديد؛ لأنك تحت القصف والحصار وتحتاج إلى أي عونٍ لا يأتي على حساب دينك وحقوقك، وهنا يكون العذر أوسع مما لو تحقق لك شيء من التمكين وزال عنك القصف والتجويع والمذبحة العظيمة. ومن هنا كان موقف المخوّنين لمن يسير بهذه الخطوات محافظًا على دينه ومصالح أمّته، متمسّكًا بقضية الشريعة؛ موقفًا خاطئًا فاقمَ أزمات الثورة وأصّل للاقتتال الداخلي وسفْك دماء المسلمين.
ومن هنا كان غريبًا أن يكون تسويغ بعض المنظّرين والمفتين للمفارقة بين رفض الجبهة/الهيئة لتلك العلاقات قديما في الثورة بل تخوين بعض الفصائل بسببها وقتالها واستحلال دمائها، وبين القبول بها الآن وتسويغها بقولهم: إنّ مرحلة الدولة مختلفة، وإنّه يحقّ للدولة ما لا يحقّ لغيرها. فهذا ليس منطقًا شرعيّا، ولا يمتّ للفقه بصِلة، فالفقه مبني على تحقيق المناط بتجريده عن مزاحمة الأوصاف، وإثبات الوصف الظاهر المنضبط الذي يتعلّق به الحكم وجودًا وعدمًا.
بل إنّ هؤلاء المسوّغين يقولون في سياقات أخرى إنّ التمكين لم يتحقق بعد، وهذا هو سبب عدم إقامة الشريعة كما ينبغي، وسبب العذر في التوسّع في العلاقات مع القوى المعادية للأمة. فنحن إذن نتحدث عن حالة من الاستضعاف تسعى إلى التمكين وإلى حماية مصالح الأمة كما يفترض، وهذا ينطبق بشكل أكبر على ما كان أيام الثورة. فالواجب على العقلاء الإقرار بالتغيّر الجذري الذي حدث بدلا من المكابرة في إنكاره وابتداع التسويغات المضلّلة لعقول الشباب، والتي تجعل الفتوى كالشرشف الواسع الذي يُفرش على أي واقع ويغطّيه!
وبطبيعة الحال كل حالة تُقدّر بقدرها، وتقاس بمقدار ما جلبت من مصالح ودرأت من مفاسد، ودرءُ المفاسد مقدّمٌ على جلب المصالح، ولكل علاقة أو اتفاق مع القوى المعادية للأمة شروط يعرفها أهل العلم ويقدّرها أهل كل زمان بالشواهد والقرائن. ولكن شرطها ألا تعود على الدين بالتحريف فنجد جوقة من مطرّزي الفتاوى يُبدعون في تضليل الشباب وإهانة الخطاب الشرعي بجعله مائعًا بلا ملامح، يسوّغ الشيء وعكسه في ظرف سنوات.
وينبغي أن يدرك العقلاء أن عدوّك القويّ لن يفتح لك صدره ويرفع عنك العقوبات ويهشّ لك ويبشّ بشكل مجاني وأنت في حالة استضعاف يحيط بك المتربّصون، فهو لا يفعل ذلك لسواد عيونك أو لدهائك في الكلام، بل يطمع من ورائه بمنافع عظيمة لسلطته ومشروعه الاستعماري في بلاد المسلمين، أي أنّه يرجو من وراء ضمّك إلى حلفه زيادة الهيمنة على بلاد المسلمين، ولهذا تضيق المناورة ويصبح منطق “المهادنة” أقرب للشرع والعقل من منطق “التحالف”.
وفق الله من سعى مخلصًا إلى التمكين لهذا الدين وهذه الأمة وحفظ حقوقها وصيانة حرماتها.





