
المداهنة المحرمة: خطرها ومظاهرها وعواقبها
إذا كانت المداهنة في أصل معناها تعني التنازل عن الحق مجاملة للباطل، فإنها تصبح خطبًا جللًا حين تبلغ مستوى السياسة العامة، إذ تفضي إلى ضياع الحقوق وذلّ الأمة، وتجعل القرار السياسي مرتهنًا بيد الأعداء، وهذا ما حرّمه الشرع ونهى عنه نصًّا ومعنى.
أولًا: خطورة المداهنة المحرمة
المداهنة المحرمة ليست مجرد تليين في القول أو المداراة في المعاملة، بل هي تنازلٌ عن المبادئ الشرعية أو الحقوق المشروعة تحت وطأة الضغوط أو رغبةً في المكاسب العاجلة. والخطر فيها أنها لا تقف عند حدٍّ، بل يجرّ بعضها بعضًا حتى تبلغ الدولة حالة من التبعية لا فكاك منها إلا بمحنة عظيمة.
وقد ذمّ الله📿في كتابه أهل المداهنة، فقال: “وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ” (القلم: 9)، أي أنهم يتمنون أن تلين لهم في دينك فيلينون لك، وهذا مسلك المنافقين وأهل الهوى الذين لا ثبات لهم على الحق.
ثانيًا: مظاهر المداهنة المحرمة
⬅️ تظهر المداهنة المحرمة في السياسة بصور شتى، منها:
1⃣ الارتهان للقوى الكبرى والتبعية المطلقة
كأن تذعن الدولة الفتية لإملاءات الدول المتسلطة، فتجعل قراراتها رهينة لإرادة الخارج، فلا تستطيع أن تتحرك إلا وفق ما يُملى عليها. وهذا من أشد صور المداهنة خطرًا، إذ يُفقد الدولة استقلالها وهيبتها.
2⃣ التنازل عن ثوابت الدين لإرضاء الآخرين
كإقرار ما يخالف الشرع بحجة التعايش، أو تعديل الأحكام الشرعية استجابة لضغوط دولية، قال الله تعالى: “وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ” (هود: 113).
3⃣ التساهل مع الفساد والمفسدين حفاظًا على المصالح
كأن تُغض الدولة الطرف عن سرقة الأموال العامة أو تلاعب أصحاب النفوذ خوفًا من فقدان دعمهم أو إثارتهم للفتن، وهذا يفسد بنيان الدولة من الداخل.
4⃣ القبول بالاحتلال أو النفوذ الأجنبي بذريعة العجز
بعض الدول تسوّغ وجود قواعد عسكرية أجنبية أو تدخل قوى خارجية في شؤونها، بحجة أنها غير قادرة على الدفاع عن نفسها، وهذا في حقيقته لون من المداهنة التي تُفضي إلى فقدان السيادة.
5⃣ السكوت عن الظلم وتبرير الطغيان
حين تتغاضى الدولة عن مظالم ترتكب في حق شعبها أو في حق المسلمين عمومًا، بحجة المصالح السياسية، فتتحول إلى مجرد تابع لا يملك أن يعترض أو يرفض.
ثالثًا: عواقب المداهنة المحرمة
1⃣ ضياع هيبة الدولة واستباحتها من الأعداء
إذا ألفت الدولة التنازل والمداهنة، استسهل خصومها الضغط عليها واستنزاف مواردها، حتى تصبح بلا قرار مستقل.
2⃣ انتشار الفساد وإضعاف روح المقاومة
إذا رأى الناس أن قادتهم يداهنون في الحق، تفشّت روح الانتهازية بين العامة، وضاعت معاني العزة والكرامة.
3⃣ تحوّل الدولة إلى أداة بيد غيرها
لا شيء أشد خطرًا على أمة من أن تصبح قراراتها تصنع في العواصم الأجنبية، لا في مراكز صنع القرار الوطني.
4⃣ غضب الله وسقوط البركة
قال النبي ﷺ: “إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم، فقد تودّع منهم” (رواه أحمد)، وهذا داء الأمم قبل السقوط.
الخاتمة
إن المداهنة السياسية، إذا تجاوزت حدّها المشروع، انقلبت إلى خطر داهم يهدد الأمة في دينها وكرامتها وسيادتها. ولا نجاة للدول الفتية إلا بالصبر والثبات، والاستعصام بحبل الله، والتحرر من قيود التبعية، ولو طال الطريق وثقلت التضحيات، فإن الذلّ في العاجل أشدّ من المكابدة في الآجل.
بقلم: أبي الفرقان الشّامي -غفر الله له-