السلام الذي يفرض على أوكرانيا ليس سلاما، بل هزيمة خفية لأمريكا والغرب (5)
سوف يسأل المؤرخون الغربيون حين يدرسون هذه الفترة بعد خمسين سنة كيف استطعنا أن نكون عمياً وجبناء وحمقاء إلى هذا المستوى وسوف يحللون الوثائق ويقرأون الخطابات ويفحصون القرارات ويذهلون من عجز الغربيين عن استخلاص العبر من التاريخ ويرون أن كل الأدوات كانت موجودة لفهم ما يجري: السوابق التاريخية لميونيخ والحرب العالمية الثانية وتجربة جورجيا وكريمه الحديثة وتحذيرات الخبراء ودول أوروبا الشرقية المتكررة وتصريحات بوتين الصريحة عن نواياه الإمبريالية. وسوف يرون أن أوروبا كانت تملك كل الوسائل لوقف العدوان الروسي أي القوة الاقتصادية والتفوق التكنولوجي والتحالفات العسكرية ورغم ذلك اختارت الدول الأوروبية ألا تفعل شيئا حاسما واكتفت بالإجراءات الناقصة وسعت إلى التوافق مع ديكتاتورية لا تفهم إلا لغة القوة ويقارنون جيل أوروبا اليوم بجيل ميونيخ عام 1938 ولن تكون المقارنة مجاملة. كان لقادة 1938 عذر على الأقل لأنهم خرجوا لتوهم من الحرب العالمية الأولى وأرادوا تجنب صراع آخر بأي ثمن. لا يملك جيل أوروبا اليوم حتى هذا العذر.
كما سيشير المؤرخون إلى السخرية المأساوية لظروف الغرب اليوم الذي يعيش في أكثر عصوره رخاءً وسلاما وحرية في التاريخ بفضل النظام الدولي الذي يدمره الآن بيده. استمتع الغرب منذ عقود بالسلام والأمن الذي ضمنه هذا النظام ولكنه اليوم يفضل التضحية به مقابل راحة قصيرة الأمد عندما يجب الدفاع عنه.
يشبه الغربيون الورثة المبذرين الذين يهدرون الثروة التي جناها أجدادهم دون اكتراث بعواقبها على أبنائهم وسوف تدفع الأجيال القادمة ثمن جبن الغرب ولها كل الحق أن تلعنه.
سوف تعيش الأجيال القادمة في عالم أخطر وأقسى وأقل استقرارا وعالم تحل فيه قوة الأقوى محل القوانين الدولية التي يحبها الغرب وعالم تسحق فيه الدول الكبيرة الدول الصغيرة وعالم تصبح فيه الحرب مجددا أداة عادية للسياسة وكل ذلك لأن الغرب اليوم لم يملك الشجاعة للدفاع عن مبادئه حين كان ذلك ممكنا بعد. إذا تخلى الغرب عن أوكرانيا، فقد يؤرخ المؤرخون في المستقبل هذه اللحظة كبداية انهيار الغرب النهائي، لا لأن الغرب افتقر إلى أدوات الدفاع عن حلفائه بل لأنه لم يعد يملك الإرادة لذلك.
لن يسقط الغرب تحت ضربات عدو خارجي بل سوف ينهار من الداخل وقد أضعفته الجبن والأنانية ورفضه الدفاع عن المبادئ التي جعلته عظيما. قد تناسب هذه الجملة الحضارة الغربية: “كان لديهم كل ما يلزم للنجاح ولكنهم اختاروا الراحة على الحرية والسكينة على الشجاعة والسلام بأي ثمن على العدل”
كان هذا الشاهد للقبر يستحق الثناء، لأن الغرب كان لديه كل التحذيرات وكل الفرص لتغيير المسار ولكنه اختار أن يستمر في الطريق السهل حتى فاته الأوان.
لن يكون ترك أوكرانيا سبب سقوط الغرب؛ بل يكون علامة عليه وشهادة على أن ما كان يجعل الغرب قويا قد فقده.
الكاتب: أبو عامر (خالد الحموي)




