
لقد مدح الله عز وجل المؤمنين بالشورى وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم…
هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، وبنى دولته، ومرت الدولة بمراحل خطرةٍ كثيرة، ولم تتوقف الشورى، بل كانت في مراحل الخطر أكثر حضوراً وظهوراً، ولا يُنتقد النبي المعصوم المؤيد بالوحي، إنما يطلب الشورى فيمتثل الصحابة ويقولون بأدب وتوقير، وليس هذا لغير المعصوم صلى الله عليه وسلم، فغيره يشار عليه وينتقد، لكن أدلى الصحابة بآراء مختلفة عن رأي النبي صلى الله عليه وسلم، في مناسبات.
وقد خالف بعض الصحابة رأي النبي صلى الله عليه، عندما علموا أنه اجتهادٌ وليس وحياً، ففي غزوة الخندق رفض سعد بن معاذ سيد الأوس وسعد بن عبادة سيد الخزرج اتفاقية الصلح مع غطفان، التي طبلها النبي صلى الله عليه وسلم ليرجع مقاتلو غطفان عن الحصار، مقابل ثلث ثمار المدينة، أراد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حرصاً على أهلها، فرفض من يمثلان أهلها إبرام الاتفاقية عندما شاورهما النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تتضرر الدولة، ولم تذهب هيبتها، ولم يُشَوَّش على سياستها، ولم يغضب قائدها صلى الله عليه وسلم.
وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، قال الصحابة والتابعون آراءهم، وأمروا ونهوا الخلفاء في أحلك الظروف، من حروب الردة، إلى معارك الفتوح، إلى الفتنة بعد وفاة عمر رضي الله عنه، كلُّ ذلك علناً لا سراً، ووصل إلينا علمه لأنه كان معلناً في وقته، ولم يضر ذلك بالدولة، ولم ينقص هيبتها، بل كان سبباً في صلاح حالها، وما ساء حال دولة الإسلام وظهر الفساد والظلم فيها؛ إلا بعد التنكر للشورى، ومنع النقد، ومحاربة المصلحين.
وإن منع الشورى والنقد والإصلاح بالكلمة وتداول الآراء، بيئةٌ مناسبةٌ لظهور ونمو نبتة الخوارج، الذين يضربون برَّ الأمة وفاجرها، ولا يتحاشون من مؤمنها، وتجتال فتنتهم الشباب الغيارى الذين تدفعهم الحماسة للدين، لا يرون من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في الشأن السياسي، ولا يرون كلمة الحق والنقد تهذب السلطة وتوجهها إلى الخير، فليجؤون إلى طريق القسرِ والعنف، فتقع الفتنة ويحل البلاء.
ومع الأسف أساء بعض المتصدرين والمفكرين الإسلاميين فهم النص والواقع، فحاربوا النقد وطالبوا بتأجيله، لوجود أعداء متربصين، وهل خلا زمان منهم؟! فإن كان النقد بسبب التساهل مع الأعداء المتربصين وترك ردعهم! فما قول هؤلاء المانعين؟ إن منعهم غير مُبرَّرٍ، ولا دليل نقلياً ولا عقلياً عليه، فإن كان الخلاف في الطريقة والاجتهاد، فليس ذلك حكراً على من ملك الجند والمال، وفي المسلمين أفذاذٌ من أهل العلم والخبرة، فإذا منع النقد وفات وقته ذهبت الجدوى منه، وإذا لم يكن الإصلاح في وقته؛ تعاظمت الأخطاء وجر الفساد ذيولاً.
في المدة القصيرة لخلافة أبي بكر رضي الله عنه لم تهدأ الحروب الطاحنة، وأثناءها أقْطَعَ الأقرعَ بن حابسٍ وعيينةَ بن حصنٍ أرضاً وكتب لهما كتاباً بذلك، وعندما أعلما عمر رضي الله عنه به محاه أو مزقه، وذهب مغضباً إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقال علناً: أخبرني عن هذه الأرض التي أقطعتها هذين، أرض هي لك خاصة أم للمسلمين عامة؟ قال: بل للمسلمين عامة.
قال: فما حملك أن تخُصَّ بها هذين دون جماعة المسلمين؟ قال: استشرت هؤلاء الذين حولي فأشاروا علي بذلك.. قال: فإذا استشرت هؤلاء الذين حولك، فكل المسلمين أوسعتهم مشورةً ورضا.. فقال أبو بكر: قد كنت قلت لك إنك على هذا أقوى مني، ولكن غلبتني.
لم تذهب هيبة الدولة، ولم يستفد المرتدون من النقد الشديد لرأس السلطة، ولم يستغله الأعداء المتربصون!!
إيييه … لقد مدح الله عز وجل المؤمنين بالشورى وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يقيده بوقتٍ ولا ظرفٍ ولا شخصٍ، فإن مُنع العالم تكلم الجاهل، وإن منع صاحب الكلمة تقدم صاحب السيف، ولا يُلامُ من نصحَ وأصلحَ وبَيَّن.
قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71].
وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الشورى:38].
اللهم استعملنا ولا تستبدلنا وأعنا، اللهم أصلح شأننا وانصرنا على أعدائك وأعدائنا اللهم آمين.
الکاتب: أبویحی الشامی