نمط التفكير عند أنصار مشروع الجولاني
إذا أردنا أن نفهم جذور الانحراف في الخطاب المصفِّق للزعيم، فعلينا أن نتأمل نمط التفكير الذي يحكم هذا الخطاب، وهو ما يمكن تلخيصه في الصراع الخفي بين العقلية السياسية والعقلية الخطابية».
العقلية السياسية، كما كانت تفهم في تراث الجماعات الجهادية الراشدة لا تسجن المشروع في شخص القائد، بل تجعل القائد في خدمة المشروع. تعلي من سلطان الشريعة على القرار، وتضبط الاجتهاد بميزان النص، وتحاكم الواقع لا بـ «التقدير الشخصي، بل على وفق قواعد النظر الشرعي وأصول السياسة المعتبرة. هي عقلية تعرف الفرق بين الطاعة والانقياد وبين الاجتهاد والخيانة وبين فقه المصلحة والانزلاق خلف غشاوة الطموح.
أما العقلية الخطابية، فهي نقيض ذلك تماما عقلية تهيمن فيها الرموز على المبادئ، وينزاح فيها مركز الوعي من المنهج إلى القائد، حتى يختزل المشروع كله في شخصه، وتقرأ النصوص بعينه، ويُفهم الواقع من نبرة صوته. وهي عقلية لا تعرف من الطاعة إلا صورتها الانقيادية، ولا من السياسة إلا ما يكرسه الإعلام الداخلي، ولا من المصلحة إلا ما أرفق بخاتم القيادة. تعلق كل مواقفها على بعد النظر، وفقه المرحلة، والحسابات المعقدة، وتحرم أي نقد مهما كان علميا، لأنه يفتح الباب أو ينكأ الجراح أو يُربك الصف. تغلف هذا التقديس بالسكوت المطمئن، ثم تسوّغه بفقه الضرورة، حتى إذا سقطت المصطلحات الكبرى وذابت الحدود الشرعية، قيل: هذه حكمة الزعيم!»، وإن سُئل عن الدليل، أحيل السائل إلى دهاليز الأسرار وثقة القادة. هذه العقلية لا تقبل إلا صوتا واحدًا، ولا تسمع إلا مدائح الولاء، ولا تصنف الناس إلا بين موال و مخرب. تغتال المعاني تحت شعار المصلحة، وتستبقي من الشريعة قشورا تتزين بها وهي تُفرغها من سلطانها. وإذا قيل لها : لكن هذا يخالف ما كنا عليه!»، أجابت: نحن في مرحلة جديدة، لها فقهها ورجالها !».
واللافت أن أنصار المشروع هؤلاء أنفسهم هم من يحرضون على الجماعات والمناهج الإسلامية الأخرى بدعوى أنها واقعة في أسر العقلية الخطابية»، مظهرين أنفسهم فرسان الرشد السياسي والحنكة الواقعية، بينما الحق أن خطابهم هو النموذج المكتمل لهذه العقلية الخطابية: إذ يبررون كل تنازل باعتباره ضرورة شرعية، ويُعلقون كل مفصل من مفاصل التغير على عبقرية الزعيم وبعد نظره، ويجعلون من الاصطفاف حوله صك نجاة، ومن النقد له إعلان تمرد.
إن خطر المخاطب المتزيي بزي أهل الحق لا يقتصر على ما يقرره، بل في أثره في العامة والمشتغلين بالدين، إذ ما إن يبرر الخطأ حتى يُصبح قدوة في الانحراف، وما إن يسكت عن المنكر حتى يُتَّخَذَ سكوته تشريعا. ومتى تصدر للناس من عظم اسمه وقل فقهه، صار فتنةً للضعفاء وذريعة للجهال. ولذلك قال الإمام الآجري محذرًا من أثر أهل القرآن إذا فسد ظاهرهم: «فمن كانت هذه أخلاقه صار فتنة لكل مفتون؛ لأنه إذا عمل بالأخلاق التي لا تحسن بمثله، اقتدى به الجهال، فإذا عيب الجاهل، قال: فلان الحامل لكتاب الله فعل هذا، فنحن أولى أن نفعله ومن كانت هذه حاله، فقد تعرض لعظيم، وثبتت عليه الحجة، ولا عذر له إلا أن يتوب. (1)
الکاتب: مروان حدید
………
📘 مقتطف من کتاب علمانستان (لقمان بن عبدالحکیم)
1- الجامع لكتب الإمام أبي بكر الآجري أخلاق حملة القرآن (۸۱/۱)





